"أحلى من الشرف مفيش".. "صلاة النبي أحسن".. " العلبة دي فيها إيه".. من ينسى هذه الإفيهات التي أبدعها الفنان توفيق الدقن، ولا نزال نرددها حتى الآن، فقد نجح هذا الفنان الجميل في أن يجمع بين الشر وخفة الظل، لذا استحق عن جدارة لقب الشرير الظريف.
وعلى مدار 40 عامًا هي عمر مشواره الفني، قدم توفيق الدقن عشرات الأعمال سواء في المسرح أو السينما أو التليفزيون أو الإذاعة، وكان صاحب بصمة خاصة في كل دور يقوم به، حتى لو كان الدور صغيرًا، فكان مجرد وجوده في العمل الفني يجعل له مذاق خاص.
وفي ذكرى ميلاده، نلقي الضوء على مشوار حياة فنان أعطى الفن كل حياته، دون انتظار نجومية أو شهرة أو مال، فاستحق أن يحصل على الأهم وهو حب الجمهور واحترامه.
بدل فاقد
نشأ توفيق الدقن في إحدى قرى محافظة المنوفية لأب يعمل موظفًا، ومنذ نشأته كان طفلًا ملتزمًا ومسئولًا، وخاصةً أنه أكبر إخوته، ولم تكن لديه أية اهتمامات فنية، بل كان بطلًا رياضيًا في الملاكمة وكرة القدم، ودائمًا ما كان يفوز في المسابقات الرياضية التي تقيمها مدرسته في محافظة المنيا التي انتقل إليها مع أسرته.
وقد عانى توفيق الدقن منذ ولادته من كونه "بدل فاقد" كما كان يقول عن نفسه، فكان لديه أخ اسمه توفيق أكبر منه بثلاث سنوات توفي، فرفض والده أن يستخرج له شهادة ميلاد، فعاش بشهادة ميلاد أخيه، وسبب له هذا الأمر أزمة كبيرة، فكان يقول " أنا فيه 3 سنين ضايعين مني محسوبين علي في الحياة وأنا ماشفتهمشي".
ممكن ينفع
كان توفيق الدقن معتادًا على لعب كرة القدم مع أصدقائه في جمعية الشبان المسلمين في المنيا، وفي أحد الأيام كانت الجمعية تستعد لعرض رواية فنية من ثلاث فصول تقوم ببطولتها الفنانة روحية خالد مع مجموعة من الفنانين الهواة من أعضاء فرقة التمثيل في الجمعية، وحدث أن تغيب أحد الممثلين، الذي كان يقوم بدور رئيسي في الرواية، فكان لابد من البحث عن بديل بشكل سريع لإنقاذ الموقف، وفي تلك اللحظة ظهر توفيق الدقن، وكان عائدًا إلى منزله بعد انتهائه من اللعب، وعندما لمحته روحية خالد قالت " أهو ده ممكن ينفع" حيث رأت أن شكله وملامحه مناسبين للدور، فذهب إليه رئيس فرقة التمثيل في الجمعية لإقناعه بتأدية الدور، ولكنه رفض بشكل مطلق قائلًا أنه لا يحب التمثيل، فذهبت إليه روحية خالد، وشجعته على خوض التجربة، فوافق في النهاية، وحفظ الدور في ساعات قليلة، وساعدته روحية خالد من خلال تعليمه قواعد الأداء، وكيفية نطق الحروف بطريقة سليمة، وقدم الدور بطريقة جيدة، وحاز على إعجاب الجميع.
مدير معمل ألبان
بعد نجاحه في تأدية الدور، بدأ توفيق الدقن يتعلق بالفن والتمثيل، ولكنه لم يفكر في احترافه، حيث حصل في تلك الفترة على البكالوريا، وبدأ في البحث عن عمل لمساعدة والده على تربية باقي إخوته، وعمل في البداية كمدير معمل ألبان، وظل في هذه المهنة لمدة 6 شهور، بعدها عُين موظفًا في نيابة المنيا، وفي تلك الأثناء توفى والده، فقرر توفيق أن ينتقل مع أسرته للقاهرة للعيش هناك، وعمل موظفًا في هيئة السكة الحديد، وفي تلك الأثناء أُعلن عن افتتاح معهد الفنون المسرحية، فشجعه أصدقائه على التقديم، وخاصةً الفنان صلاح سرحان الذي بدأت علاقته به منذ اشتراكهما سويًا في بطولات الملاكمة أيام المدرسة، وبالفعل قدم أوراقه، ولكنه لم ينجح في الاختبارات، فقرر أن ينسى موضوع التمثيل، ويركز في عمله، ولكن بعد عامين من سقوطه في الاختبارات، فوجىء بتلغراف من زكي طليمات عميد المعهد يقول فيه " توفيق أفندي أمين الدقي الموظف بمصلحة السكة الحديد نرجوكم الحضور لمسرح الأزبكية الساعة 5 ومعك 6 صور لتأدية الامتحان". فوجىء توفيق الدقن بالتلغراف، وبأن زكي طليمات لايزال يتذكره حتى الآن، فذهب في الموعد المحدد، وعندما رآه طليمات سأله عن السبب الذي جعله لا يقدم العام الماضي، وقال له أنه مقتنع بموهبته الفنية، ونجح توفيق الدقن في الاختبار دون امتحان حقيقي، والتحق بالمعهد.
المسرح الحر
بدأ توفيق الدقن مشواره الفني، وهو لايزال طالبًا في المعهد، حيث اشترك في بعض الأفلام بأدوار صغيرة، الأمر الذي أقلق زكي طليمات الذي شعر بأن الدقن أُصيب بالغرور، ويتعامل مع أستاذه كأنه نجم سينمائي، فأراد أن يصحح مساره، فنصحه قائلا " يهمني أن أرى ابنًا من أبنائي ناجحًا، ولكني لا أتمنى أن يكون هذا الابن مغرورًا، لأن في الغرور نهاية أي فنان مهما عظم قدره، وهذا لا أتمناه لك ولا لأي أحد من تلاميذي" وقد كانت لهذه الكلمات تأثيرًا كبيرًا على توفيق الدقن، وظلت محفورة في ذهنه طوال حياته.
عقب تخرجه من المعهد، اتفق توفيق الدقن مع مجموعة من زملائه منهم عبد المنعم مدبولي و محمد رضا و سعد أردش و كرم مطاوع و صلاح منصور على عدم الالتحاق بمسرح الدولة، وأن ينشئوا مسرح خاص يقدمون من خلاله أفكارهم ورؤياهم، ومن هنا كان المسرح الحر، الذي قدموا من خلاله عددًا من المسرحيات الهامة، لعل أهمها "الناس اللي تحت" التي قدم فيها توفيق الدقن دور "رجائي" ابن الذوات الذي جار الزمن عليه، فلجأ إلى الخمر، واضطر إلى الزواج من صاحبة العمارة العجوز.
استمر توفيق الدقن يقدم عدة مسرحيات من خلال فرقة المسرح الحر، بعدها انضم لفرقة إسماعيل يس لمدة عامين، حتى جاءت النقلة الأهم في حياته بعد انضمامه للمسرح القومي عام 1958.
على درجة فنان قدير
كان انضمام توفيق الدقن للمسرح القومي بمثابة البداية الحقيقية له، حيث قدم من خلاله عشرات المسرحيات الجادة الهادفة التي أبرز فيها موهبته المتفردة وأدائه الراقي، وقد ظل يعمل في المسرح القومي حتى وصوله لسن المعاش، وكان حينها على درجة فنان قدير، ومن أبرز المسرحيات التي نتذكرها له عيلة الدوغري، وقدم فيها شخصية "حسن الدوغري" الذي يحاول أن يوقف تفكك أسرته التي انفرط عقدها، ويعد هذا الدور من أهم أدواره على المسرح، وهناك أيضا مسرحية المحروسة التي قدم فيها دور "المأمور" التافه الذي تستأنسه زوجته، والدخان الذي قدم فيها شخصية "الفتوة"، وعفاريت مصر الجديدة وجسد فيها شخصية أستاذ الجامعة الذي ينحدر من عالم البحث الأكاديمي ليفتتح معهد للرقص الشرقي ليهرب من الاضطهاد الديني وبطش السلطة، وفي مسرحية دماء على ملابس السهرة قدم دور رجل المخابرات، وفي مسرحية سكة السلامة جسد دور "قرني" الريجسير.
أحلى من الشرف مفيش
على الرغم من تميز توفيق الدقن على المسرح، إلا أن أدواره السينمائية أعطته الشهرة والنجومية وحب الناس، ومع أنه لم يكن بطلا في أفلامه، إلا أنه كان صاحب بصمة في كل الأدوار التي يقدمها، حتى لو كان الدور صغيرًا، وقد تخصص توفيق الدقن بشكل كبير في أدوار الشر، وعلى الرغم من أنه ظهر مع عمالقة الشر في تلك الفترة مثل فريد شوقي و زكي رستم و محمود المليجي، إلا أنه لم يقلدهم، وكان له أسلوبه الخاص الذي مزج فيه الشر بخفة الظل والكوميديا، وكانت له إفيهات ولزمات شهيرة في بعض الأفلام لايزال الجمهور يتذكرها، ويرددها حتى الآن، ومن أبرز الأفلام التي قدمها على مدار مشواره الفني، درب المهابيل للمخرج توفيق صالح، حيث جسد دور ابن العجلاتي البخيل بملامحه الغليظة وشعره المدهون بالفازلين، ولنفس المخرج قدم دورًا هامًا في فيلم يوميات نائب في الأرياف، فجسد شخصية المأمور الذي يمثل السلطة المطلقة، ومع المخرج صلاح أبو سيف قدم فيلمان هما الفتوة الذي قام فيه بدور مساعد زكي رستم، وفي القاهرة 30 قام بدور بائع صغير في كشك سجائر لديه كل شىء للبيع حتى ابنته، كما شارك في ستة أفلام ل يوسف شاهين أهمها الأرض و حدوتة مصرية و الوداع يا بونابرت، ومن أدواره الأخرى التي لا تنسى في السينما دور "عبده دانس" في فيلم أحبك يا حسن، التي قال فيها إفيهاته الشهيرة مثل "يا آه يا آه"، و"أحسن من الشرف مفيش"، وهناك أيضا دور "الباز أفندي" في فيلم ابن حميدو، وجملته الشهيرة "صلاة النبي أحسن"، ودور "أمين المجوهراتي" في سر طاقية الإخفاء، ولازمته الشهيرة "العلبة دي فيها إيه"، ومن أدواره المتميزة الآخرى دوره في فيلمي خرج ولم يعد، و على باب الوزيرالتي ابتعد فيها عن تجسيد أدوار الشر.
ومع تعدد أدواره، يبقى دوره في فيلم ليل وقضبان مع المخرج أشرف فهمي، واحدًا من أهم أدواره، حيث جسد دور جاويش سجان في معتقل منعزل، يشي للمأمور بأن زوجته على علاقة بأحد السجناء.
يا سكير يا لص
تميز توفيق الدقن في تجسيد أدوار الشر، جعل الجمهور يعتقد أنه شخص شرير في الحقيقة، مما عرضه للعديد من المواقف الطريفة، ففي إحدى المرات ذهب ليشتري لحم من محل جزارة أسفل المنزل الذي يسكن فيه، فطارده الجزار بالساطور، لأنه اعتقد أنه شرير بالفعل، ومرة آخرى أثناء قيادته سيارته، وكانت بجواره والدته، حيث فوجىء بسيدة تناديه يا سكير يا لص، ولم تفكر في أن ما يفعله مجرد تمثيل.
محمود المليجي
على الرغم من المنافسة بين محمود المليجي وتوفيق الدقن في المجال الفني، نظرا لتشابه الأدوار التي يقدمونها، إلا أنهما في الحقيقة كانا من أقرب الأصدقاء ومع بداية توفيق الدقن في السينما، كان المليجي يقترح على المخرجين الاستعانة به، نظرا لموهبته الفنية، وقد توطدت العلاقة بينهما أثناء اشتراكهما سويًا في فيلم أموال اليتامى، فمع بداية التصوير أصيب الدقن بحالة من التوتر، نظرا لأنها المرة الأولى التي يقف فيها أمام المليجي، فكان يعيد التصوير أكثر من مرة، وعندما شعر المليجي بتوتره، طلب من المخرج أن يأخذ استراحة، وجلس مع توفيق الدقن وتكلم معه، فأفصح الدقن عن سبب توتره، وهو أن والدته كانت تتمنى أن يكون مثل المليجي، وكانت تقول له نفسي أشوفك زي المليجي، ولذلك عندما بدأ التصوير أمامه شعر بارتباك وتوتر، ومن هنا كانت بداية الصداقة التي استمرت سنوات بين اثنين من أعظم ممثلي الشر في السينما.
لا يرفض شيئا
لم تقتصر أعمال توفيق الدقن على المسرح والسينما فقط، فالإذاعة كان لها نصيب من أعماله، فقدم عدة مسلسلات إذاعية، أبرزها سمارة مع سميحة أيوب، حيث قدم دور المعلم سلطان، وكانت له لازمة شهيرة في المسلسل " استر ياللي بتستر" كما قدم عدة مسلسلات تليفزيونية مثل القط الأسود التي قال فيها جملته الشهيرة " ألو يا همبكة"، و حلم الليل والنهار و المحروسة 85 و محمد رسول الله.
ونظرًا لاشتراكه في العديد من الأعمال منها بعض الأفلام السطحية والتافهة، اتهمه النقاد بأنه الفنان الذي لا يرفض شيئًا من الأدوار المعروضة عليها، وقد رد توفيق الدقن على هذا الاتهام في حوار إذاعي مع الكاتب محمود السعدني، فقال أن المسرح عشقه الأول، وأهم الفنون لديه، ولكن مرتبه من المسرح قليل جدًا، ولديه التزامات ومسئوليات، فهو مسئول عن زوجته وأولاده الثلاثة، بالإضافة لتوليه مسئوليه أشقائه، لذا، يضطر في بعض الأحيان لقبول أعمال يكون غير راض عنها، من أجل أن يعيش بكرامة.
ظل توفيق الدقن يعمل حتى آخر أيامه، وأثناء تصوير إحدى المسلسلات التليفزيونية، داهمه التعب فجأة، حيث كان يعاني من أمراض تضخم الكبد والسكر، فتم نقله لمستشفى المقاولون العرب، وتوفى بعد أسبوعين عن عمر يناهز 65 عامًا.