"أصل الحكاية عن ولد، شبهي وشبهكم تمام، في قلبه لسه بيتولد، قمر الحواديت، والشجن والكلام، وفي ليلة من ذات الليالي راح، راح والقمر مخنوق، والعتمة مالهاش عيون، لا حد عارف مين مبحر مين ومين مشرق مين، ومين مونس عتمته بسكين، كان له أخت وحيدة تتألم، خرسة صحيح، لكن كل ما فيها كان بيتكلم، في عينيها حزن، عالم بحاله جريح، هي الوحيدة اللي عارفة ليه رحل وفين".
أشعار عبد الرحيم منصور في فيلم " الزمار"
عشر سنوات مرت على رحيل العبقري أحمد زكي، وعشرون عامــًا على رحيل عاطف الطيب، أحد عظماء مدرسة الواقعية الجديدة مع أقرانه محمد خان و داوود عبد السيد. (1)
إذا اعتبرنا أن الطيب وخان وعبد السيد هم المثلث الأبرز الذي عبر عن هذه المدرسة في الإخراج، فلا يمكن أن ننظر إلي هؤلاء الثلاثة دون إدراك ثالوث آخر أسس لنفس المدرسة على مستوى التمثيل وهم أحمد زكي و نور الشريف و محمود عبد العزيز. وإذا ما تتبعنا الخط التاريخي لأعمال هذا السداسي العبقري خلال مرحلة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، سندرك مدى صحة هذه الفرضية.
ما يدعم هذه الفرضية أيضــًا عن ثلاثي التمثيل العظيم، فيديو موجود بموقع اليوتيوب يؤرخ لحفل على هامش مهرجان الإسكندرية للسينما 1991. الذي رُشح فيه الثلاثة لجائزة أحسن ممثل عن أفلام " الصرخة" لنور الشريف، و" الكيت كات" لمحمود عبد العزيز، و" الراعي والنساء" لأحمد زكي، وقد كانت الجائزة من نصيب "الشيخ حسني" في فيلم "الكيت كات".
عندما سُئل أحمد زكي عن فيلم الصرخة الذي جسد فيه نور الشريف شخصية عمر الأبكم الأصم قال زكي: دوره أسعدني وأبكاني، بقالي مدة كبيرة جدًا ما فيش حاجة تقدر تحرك مشاعري، نور الشريف أبكاني. اجتمع هذا الثلاثي في ذلك الحفل على خشبة مسرح واحدة غنوا معــًا واحتفلوا سويــًا بفوز عبدالعزيز بجائزة التمثيل.
في عام 2013 أُجري استفتاء تابع لمهرجان الإسكندرية، تم فيه استطلاع رأي النقاد حول أفضل أفلام تم إنتاجها منذ إنشاء مهرجان الإسكندرية عام 1979 حتى عام 2013، وكانت نتيجة الاستفتاء في المراكز الأربعة الأولى هي أفلام:
1- سواق الأتوبيس: نور الشريف، إخراج عاطف الطيب.
2- إسكندرية ليه: إخراج يوسف شاهين.
3- البريء: أحمد زكي، محمود عبد العزيز، إخراج عاطف الطيب.
4 - الكيت كات: محمود عبد العزيز، إخراج داوود عبد السيد.
مع رحيل نور بعد عشر سنوات على رحيل زكي، نفقد ضلعين من هذه المدرسة التمثيلية التي امتدت لقرابة النصف قرن، ليبٍقى لدينا ضلع وحيد للأسف بات مُقلًا في أعماله. محمود عبد العزيز، الذي بدأ المشوار مع نور الشريف عندما شاهدناهما يحملان " الحفيد"، واستمر إبداع كليهما حتى رأيناهما يقضيان معــًا " ليلة البيبي دول".
رحل عاطف الطيب قبل عقدين من الزمان، وهو في أوج تألقه الفني، دون أن يكمل الخمسين ربيعــًا. ربما لم أدرك وفاته وقتها، كنت صغيرًا، كنتُ أشاهد السينما عن طريق أبطالها الواقفين أمام الكاميرا، لم أبحث عن الأبطال وراءها. أدركت قيمة هذا الرجل الفنية من خلال البحث في سيرته، ومشاهدة أعماله، وحجم الصدمة التي أصابت الوسط السينمائي بسبب وفاته ومنهم أستاذه صلاح أبو سيف الذي رحل في نفس يوم رحيل عاطف الطيب لكن في العام التالي. رحل الطيب وهو غير مكترث بالمرض، مُنتظرًا الانتهاء من العملية الجراحية في القلب حتى ينتهي تمامــًا من فيلمه "جبر الخواطر"، ويبدأ في فيلمه الجديد "نزوة" الذي لم يسعفه القدر أن يصنعه.
يروي نور الشريف في أحد البرامج المسجلة له منذ عدة أعوام أن علاقته بعاطف الطيب كانت قوية للغاية، وأنه قد تأثر بوفاة الطيب بشكل غير طبيعي، لدرجة أنه لم يبك الطيب لأن الحزن في قلبه آنذاك كان أكبر من البكاء. وكانت بداية العلاقة بين الشريف والطيب في فيلم " إعدام طالب ثانوي" حيث كان الأخير مساعد مخرج.
حصل نور على جائزتين دولتيين عن أدائه في فيلمين لعاطف الطيب هما "سواق الأتوبيس" و" ليلة ساخنة" من مهرجاني نيودلهي والقاهرة السينمائيين الدوليين.
بعد قرابة العقدين يرحل نور ليلتقي صديقه الأعز في مكان آخر. وفاته كانت صادمة، وقعها كان قويــًا عليّ لأنني قبل وفاته بأيام كنت أتابع مجموعة من أعماله. ربما كان البحث والشغف وراء معرفة تجربة الشريف الفنية منذ ستينات القرن الماضي المليئة بالديناميكية على المستوى الفني والسياسي، قد جعلني أشعر بالاقتراب الشديد من الرجل إنسانيــًا وخاصةً عندما توغلتُ في تفاصيل أزمة فيلمه " ناجي العلي" عام 1992. رحل الشريف وعقله ممتلئ بالأعمال الفنية والمشاريع المستقبلية مثل فيلم "قوم يا مصري" الذي يتحدث عن الأسرى المصريين في السجون الإسرائيلية.
خلال ما يقرب من الخمسة عشر عامــًا عمل الثنائي سويــًا في 9 أفلام، نجحا خلالها أن يصنعا لغة سينمائية خاصة، تشعر وأنت أمام الشاشة والصورة السينمائية أن الشريف والطيب يتحدثان إلى بعضهما البعض. في أول قصة جمعتهما، فيلم " الغيرة القاتلة" 1982 المستوحى من العمل الشكسبيري الأثير "عطيل"، يخطو الطيب خطواته الأولى كمخرج شاب جاء من عجينة أرض الطبقة الوسطى في مصر. قصة غير مبتكرة لكنني منذ الصغر أحببتها ربما لأن نور الشريف و نورا و يحيى الفخراني هم من جسدوها. يقول نور الشريف عن هذا الفيلم: كان لدي ملاحظات على السيناريو، لكن لم يكن هناك وقت للتعديل، فقال لي عاطف إنه سيأخذ هذه النقاط في الاعتبار ويتجنبها أثناء التنفيذ. وبالرغم من أنها كانت أول تجربة لعاطف الطيب، وفي كثير من الأحوال تكون التجربة الأولى مربكة وبالتالي يهتم المخرج بالشكل أكثر من المضمون، إلا أنني لم أر ذلك مطلقــًا في الطيب. ويضيف: كنتُ أشعر أن الغيرة القاتلة أقل من إمكانيات الطيب، لكن كان لابد عليه أن يبدأ، ونجحتُ وقتها في توفير موزع الفيلم.
وفي فيلم سواق الأتوبيس 1983، تقول ميرفت زوجة حسن بطل الفيلم: "حاسة إن في حاجات كتير قوي اتغيرت أنا نفسي مش قادرة أفهمها". هذه العبارة تلخص ما حدث في مصر منذ نهاية الستينات وحتى بداية الثمانينات وما بعدها.
ينجح الطيب في إبراز المنحنى الصاعد في المجتمع المصري الثمانيني لفئة معينة أفرزها الانفتاح تقتنص كل شيء تقريبـًا، وعلى مستوى آخر المنحنى الهابط لقطاع آخر لم يغتنم أي شيء بعد حروب كثيرة خاضتها مصر بدءًا من حرب اليمن وحتى الوصول لحرب أكتوبر. ثاني تجارب الطيب مع نور الشريف أغرقت في المصرية وتفاصيلها، مشاهد العشوائيات المتقاطعة مع مظاهر الاستهلاك الجديدة ومعلبات البيبسي الحديثة التي هبت ريحها من الجمرك البورسعيدي وصور الإسراف القادمة ملامحه من الخليج، وهوجة البنوك الأجنبية والشركات الاستثمارية.
صورة الأسرة المصرية في هذا الفيلم كانت تموج بالحقيقة، تشعر معها أنك تجلس وسط أسرتك الدافئة أمام التلفزيون لمشاهدة مسلسل المساء. شاهدت في هذا الفيلم أخر مشاهد للأسرة المصرية في السينما والواقع. تنبأ الطيب والشريف بمستقبل الترابط الأسري في مصر الذي بات الكثير منه الآن أطلالًا. الفيلم يعكس الحزن على الوضع السياسي والاجتماعي في مصر من خلال عيون الطيب والشريف أبناء التجربة الناصرية. ولعل مشهد البداية والنهاية في الفيلم الذي يتضاد فيه موقف نور الشريف من السلبية إلى الإيجابية، والإمساك بالحرامي وإثخانه اللكمات، ما هو إلا قول فاصل من الطيب والشريف و بشير الديك هنا بأنهم يعرفون أن حاميها حراميها!
أما فيلمهما "الزمار" 1985، ترى فيه واقعية عاطف الحالمة، متأثرة بأدب أمريكا اللاتينية وليس الواقعية المليئة بالرمزية المباشرة مثل سينما معلمه أبو سيف، اسُتلهمت فكرة الفيلم من المسرح الأمريكي لتينيسي ويليامز باسم "أورفيوس يهبط" و التي كان اسمها في البداية عندما ألفها ويليامز معركة الملائكة. وأورفيوس في الأصل هو بطل أسطوري إغريقي. الفيلم مزيج من الواقعية التي تماست مع الخيال، خيال الثائر الذي يحلم بواقع أفضل لقومه. الزمار حسن الذي يحمل نايه طوال الوقت ويشدو بشعره العذب فيطرب من حوله، لا يختلف كثيرًا عن أورفيوس ذلك البطل اليوناني صاحب الموهبة الموسيقية الذي كان لعذوبة موسيقاه القدرة على بث السكينة في قلوب الحيوانات. ماتت زوجة أورفيوس التي أحبها حبًا شديدًا وقرر أن يذهب ليراها في العالم السفلي، مطالبــًا ملك العالم السفلي أن يعيدها للحياة، فوافق الملك بشرط ألا ينظر أورفيوس إلي زوجته، لكن بمرور الوقت لم يستطع أورفيوس ونظر إليها فعادت حبيبته مرة أخرى للعالم السفلي.
ربما أراد نور والطيب من خلال الفيلم أن يبرزا رحلة بحث الزمار بموسيقاه وأشعاره عن الحرية والعدل في مدينة أفلاطونية فاضلة. على الناحية الأخرى أوضح الطيب ذلك التعاون بين السلطة التنفيذية الممثلة في مأمور الشرطة، ورجل السياسة الممثلة في نائب البرلمان، ورأس المال المتمثلة في "حفني" أحد كبار تجار القرية من أجل بناء مشروع لخدمة القرية في ظاهر الأمر. استشرف الطيب ما ستدخل عليه مصر بعد ذلك من تزاوج بين السلطة ورأس المال. وكادت محاولات حسن لمحاربة الظلم وتوعية الناس أن تؤتي ثمارها لكن مخالب الشر لطالما كانت أقوى، فكان الموت مصير الزمار.
وفي فيلم " ضربة معلم" 1987، رغم فكرته العادية حول الصراع بين الضابط الشريف والرجل الفاسد، إلا أنه تم الحديث عن الفساد في السلطة التنفيذية والقضائية، وهذا الأمر لم يكن متعارفــًا عليه بشكل واضح في سينما الثمانينات، مع تأكيد الفكرة التي ذكرت في فيلم "الزمار" عن علاقات رأس المال بالسلطة التي بدت تتوغل في جسد المجتمع. لم أفهم في البداية لماذا حدث التحول في شخصية ليلى علوي (نجوى) في الفيلم حيث ارتدت الحجاب بشكل سريع في الفيلم دون تبرير، حتى أوضحت نجوى أنها ارتدته مثل زميلاتها اللاتي فعلن ذلك بشكل مفاجئ، ربما أراد صانعو الفيلم أن يبرزوا انتشار هذه الظاهرة التي كانت من ملامح الثمانينات في مصر.
"لستُ بسيطــًا كما يتراءى لك، كثيرون ينخدعون فيّ، حتى الصبية يجرون ورائي وأنا أتخبط في الشوارع، ماذا يظنون؟ إني أحب الكلام، ولما كنت وحيدًا فإني أكلم نفسي، ماذا يظنون؟ لقد تقدم بي العمر ولم تكف الأسئلة عن مطاردتي، صدقني فأنا شخص غير عادي، حتى في الجبل كنتُ غير عادي، ولا في القصر ولا في الخرابة. رغم التصعلك و التسول فإنني أقف أمام الحياة مرفوع الرأس متحديًا، إذ أن الحياة لا تحترم إلا من يستهين بها".
جعفر الراوي، رواية قلب الليل.
في هذا الفيلم الذي أنتج عام 1989، برع محسن زايد في تحويل رواية محفوظية رصينة إلى فيلم مهم، نقل معه عاطف الطيب تحديدًا من مرحلة أفلام الواقع إلى الأفلام الوجودية. غير محسن زايد في معالجته للرواية، فبدأ الفيلم مع جعفر منذ الصغر في حين تبدأ الرواية بجعفر وهو في سن الشيخوخة محاولًا استرداد ميراث جده.
جعفر الراوي الذي يعيش محاصرًا ما بين مذكرات أبيه الراحل، وقيود جده المتزمت الذي يريده أن يكون ربيب علم. يبحث عن الحرية التي لا يعرفها، ظاهر الأمر أنه يختار ما يريد، لكنه لم يختر شيئــًا في حياته، لا يعرف ماذا يريد، يحلم فقط ولا يستطيع تحقيق هذا الحلم، لا يشعر بالآخرين ولا يدرك وجودهم، متمركز حول ذاته التائهة، يريد البطولة لكنه لا ينالها.
شخصية يمكن أن تصفها بأنها (حين ميسرة)، الإدعاء مكون أساسي فيه وخاصة عندما يشعر بصغر حجمه أمام منافسيه، الإدعاء بمعرفة الكلية، يرى أن لا أحد قادر على فهمه، وعندما جاءت اللحظة التي واجهه أحدهم بالحقيقة كان القتل هو أول ما لجأ إليه. نهايته كانت مثل نهاية أبيه، مجموعة أوراق تعبر عن صاحبها فقط. يقول نور الشريف عن هذا الفيلم: "أنا من مريدي نجيب محفوظ، وهذا الفيلم من الأعمال التي أعشقها له، لأن العمل فيه طرح لعلاقة الإنسان بالله، جعفر الراوي هو آدم، لو أن آدم خُلق مرة ثانية هل سيهبط للأرض أم يبقى في الجنة؟ ذلك هو السؤال الذي طرحه قلب الليل".
ويستطرد الشريف: "عاطف الطيب ومحسن زايد صاغوا سيناريو ذكي. أنا كنت ضد ظهور شخصيات حقيقية في العمل مثل طه حسين أو بيرم التونسي، لأن ذلك سيفقد العمل رمزيته وبعده الفلسفي، لكن زايد والطيب قالوا إنه لابد من ظهور مثل هذه الشخصيات حتى لا يصعب على الجمهور فهم الفيلم وكي تتقبله الرقابة".
ندر أن شاهدت نور الشريف يقوم بدور البطل الشرير في أفلامه السينمائية، باستثناء دوره في فيلم " بئر الخيانة" وفيلم " كلمة شرف" الذي كان دوره فيه صغيرًا أو أفلام السبعينات التي قام فيها بأدوارٍ خفيفة، غير ذلك حافظ الشريف على صورته المرتبطة بالبطل الطيب الذي يصارع مبادئ المجتمع المختلة ويحاول مواجهة طغيان المجتمع والسلطة وحده.
ولعل فيلم " كتيبة الإعدام" إنتاج 1989 يتجلى فيه هذا البطل الذي يواجه الجميع وهو أعزل، يقول الشريف إن هذا الفيلم رصد وكشف حقيقة مَنْ تكسّب مِن حرب اكتوبر 1973، وكيف يشعر الإنسان الشريف عندما يُتهم ظلمـًا بأنه غير وطني، وذلك كما حدث معه في الواقع بعد عرض فيلم " ناجي العلي".
"حتى وهو ميت مخوفكن"
جملة قصيرة ذكرت في نهاية الفيلم لخصت قصة حياة ناجي العلي، الذي مَثلَ لهم هاجســًا حتى عندما أنتج فيلم عن قصة حياته عام 1991. كان من المفترض أن يقوم بإخراجه صلاح أبو سيف لكنه اعتذر فقام نور الشريف بالتعاون مع الطيب.
يكفي الطيب والشريف فخرًا أنهما من المصريين القلائل -بجانب يسري نصر الله وثنائيته باب الشمس- الذين صنعوا فيلمــًا محوره القضية الفلسطينية. الفيلم بديع لدرجة البكاء، صادق كصدق الشريف في أداء دوره، نقل همه وإيمانه الشخصي عن القضية الفلسطينية كفنان ومواطن عربي عن طريق سيرة ذاتية لفنان آخر هزت رسومه الكاريكاتيرية أركان نظم عربية. ربما لم يتقن نور الشريف اللهجة الفلسطينية بنسبة 100٪ لكنه في نهاية المطاف نقل الحالة بجل ما فيها من ألم وأسى وهم وطني. ذكرني مشهد الوحدة المصرية السورية عام 1958 وحالة السعادة التي شعر بها الفلسطينيون بنفس الحالة التي ماجت بها شوارع غزة والضفة الغربية في 2011 بعد إسقاط مبارك من الحكم، وذلك الأمل القريب بتحرير فلسطين. أما مشهد الحفل الذي حضره ناجي العلي في منزل أحد رجال الأعمال الفلسطينيين في لبنان متحدثــًا عن القضية الفلسطينية وهو في حقيقة الأمر لا يعبأ بها، بل يستفيد منها لصالحه الشخصي، كان مشهدًا عبقريــًا لخص فيه الطيب والشريف واحدًا من أسباب ضعف موقف القضية الفلسطينية، الداخل العربي والفلسطيني نفسه.
رغم أن الفيلم لم يكن من الأفلام ضخمة الإنتاج على المستوى الحربي، إلا أن الطيب نجح في إبراز صور الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 بشكل كبير. ألم الاجتياح الإسرائيلي لم يغفله الفيلم وكذلك روح بيروت الأبية في مواجهة العدوان خلال صوت مارسيل خليفة وهو يشدو: منتصب القامة أمشي.
عُرض الفيلم في افتتاح مهرجان القاهرة الدولي وقتها، وكان من المفترض أن يعرض في المهرجان القومي للسينما، حتى شنت جريدة "أخبار اليوم" حملة مناهضة للفيلم وكُتبت مقالات بعناوين: من أجل حفنة دولارات، حتي لا تكون السقطة الكبرى، ومايزال السقوط مستمرًا. وقام أحد الكُتاب بمهاجمة صناع الفيلم متهمــًا إياهم بالخيانة قائلاً ما نصه: في تصوري أن إسرائيل هي أول السعداء بهذا الفيلم فهو يضرب لها عصفورين بحجر واحد. وأضاف في مقال آخر: إنني أدعو الشعب المصري إلى مشاهدة هذا الفيلم حتى يتعرفوا على أبعاد الجريمة التي ارتكبها الثلاثي: جابر، الديك، الطيب، ورابعهم محمود الجندي.
مُنعت أعمال نور الشريف من العرض في دول الخليج، وتطورت الأزمة لدرجة أن الشريف فكر في السفر للندن والبحث عن عمل هناك كإعلامي في موسسة البي بي سي. ويُروى في الكواليس أن هذا الكاتب الصحافي عندما التقي الرئيس الأسبق مبارك، سأله الأخير عن سبب هذه الحملة على الفيلم ورفض عمل دعاية عنه في الجريدة، فأخبره الصحافي أنه فعل ذلك من أجل حماية الرئيس، فسأله مبارك وما علاقتي بناجي العلي؟ فقال له الصحافي: هذا الرسام الكاريكاتيري ناجي العلي هو من رسم الكاريكاتير وأطلق نكتة البقرة لافاشكيري عليك! وهنا يحكي نور الشريف قائلاً: كانت جريدة أخبار اليوم تتابع تصوير الفيلم في بيروت، وكنت أتوقع هجوم من خارج مصر، للأسف حدث الأمر من داخل مصر، وتم اتهامي وعاطف الطيب وبشير الديك بأننا خونة. ولعل ما ينصف نور وعاطف وبشير أن الفيلم عُرض على التليفزيون المصري بعد منعه بقرابة العشرين عامًا ولا أحد يتذكر هذا الكاتب الصحافي أو مقالاته!
أما عن لقائهما قبل الأخير في " دماء على الأسفلت" 1992 فيحكي نور أن المؤلف أسامة أنور عكاشة مع الطيب نجحا في أن يرصدا التحول الأخلاقي الذي حدث في المجتمع في الثمانينات في إشارة واضحة وتحية لفيلم " بداية ونهاية" لنجيب محفوظ وصلاح أبو سيف الذي كان يبحث في التغير الأخلاقي لنفس المجتمع أيضــًا ولكن في فترة زمنية أخرى.
كما ابتدأ الطيب تألقه مع حكاية حسن سائق الأتوبيس وفاز معه الشريف بجائزة تمثيل دولية من الهند، ينهي الطيب مسيرته مع سيد سائق التاكسي الذي فاز كل منهما معه بجائزة دولية من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. اُعتبر فيلم "ليلة ساخنة" الجزء الثاني لفيلم سواق الأتوبيس في رؤية نور الشريف.
"شوية ماعندهمش خشا ولادين، وشوية عايزين يخنقونا، ويحرموا علينا الهوا اللي بنتنفسه"
تناقض طرحه الطيب وفريقه في هذا الفيلم، تطرف السلوك والقيم التي يعيشه المجتمع. مع تصوير فيلم ليلة ساخنة 1995، كان المرض قد اشتد على عاطف الطيب إلا أنه لم يأبه بذلك الألم الغائر في قلبه، وقدم فيلمــًا خلابــًا فكرته الأساسية تدور في 24 ساعة، تذكرني بفيلم " بين السما والأرض" الذي يحدث في حوالي ساعتين. تيمة الزمن المحدود ليست منتشرة في السينما المصرية، وقد قدمها أبو سيف ومن بعدها تلميذه. العمل كان معبرًا عن روح التسعينات بامتياز، ديناميكيته لم تتوقف دقيقة واحدة وهذا ما زاد من قوته، ولم يفقد واقعيته أيضــًا طوال العرض.
الفيلم يكشف مأساة منظومة الصحة في مصر وحالة اللامبالاة التي أصابت العاملين فيها سواء في المستشفيات الحكومية التي باتت مرتعــًا للإهمال أو الخاصة التي باتتــًا مصاصــًا لدماء البشر. لم يغفل الحديث عن ظاهرة تنامي الجماعات الإسلامية مرة أخرى مع بداية التسعينات وما يتعلق بها من انتشار للإرهاب، كل هذه الحكايات مغزولة في نسيج حكاية سائق بسيط يحاول علاج أم زوجته، وامرأة تريد أن تدفع قيمة تنكيس منزلها في ليلة يلهو فيها كثير من القوم احتفالًا بالعام الجديد. مشهد عبقري أخرجه لنا الطيب يتجلى فيه الصراع بين سيد (نور الشريف) وحورية ( لبلبة) حول الأموال المسروقة مع خلفية أذان الفجر أثناء الحوار. يحكي نور هنا أن هذا الفيلم ربما يكون أصعب تجربة له في حياته على الإطلاق، لأن الفيلم 70 ٪ من أحداثه داخل التاكسي، محروم من أعين عاطف الطيب: "كنا نقوم بعمل البروفات لفترات طويلة والتاكسي متوقف، ثم نبدأ بعد ذلك التصوير وأنا أقوم بتدوير الكاميرا وتشغيل الصوت والإضاءة وتسجيل الصوت، مما كان يزيد التوتر والشد العصبي".
إذا كان نور الشريف قد نجح في تجسيد شخصية ابن البلد في كثير من أعماله، فعاطف الطيب كان هو التجسيد الجلي لمفهوم المخرج ابن البلد إذا ما قارناه بزملائه خان وعبد السيد في أفلامهما. يروي نور الشريف عن أسلوب عاطف الطيب الإخراجي: "البطل في أعمال عاطف على وشك الانفجار، كما أن له ملمح خاص في المدرسة الواقعية، المعروف عنها أن للمكان سطوة في الصورة، وهذا كان متوفر عند عاطف، لكن ما أضافه للاتجاه الواقعي الجديد هو اللقطات القريبة للبطل الذي كاد أن ينفجر وبالتالي فاللقطات تعكس الشخصية وانفعالاتها بشكل كبير، وهذه اللقطات لا يمكن أن تأتي بشكل جيد إذا لم يكن المخرج متمكن من أدواته التي يستخدمها مع الممثل.
كان الطيب أكبر من نور بعام واحد فقط، كلاهما جاء من صعيد مصر وإن كانت القاهرة قد احتضنتهما منذ الصغر. ملامحهما قريبة إلى بعضهما البعض إذا نظرت إليهما. تقاسيم وجهيهما تشبه وجوه معظمنا. مصريان عاديان بدرجة غير عادية، عندما تنظر لصورة من صور الطيب تشعر أنه الشريف في سواق الأتوبيس، وعندما تشاهد نور في ليلة ساخنة تشعر أن روح الطيب قد أوغلت في المشهد بعد أن رَحَبَ المكان بها.
رحل رجلان عاديان إن سارا وسط الجموع قد لا تميزهما عن أي مصري آخر، رحل العاديان وتركا لنا إرثــًا غير عادي.(2)
(1). ينتمي لهذا التيار أيضــًا من الممثلين صلاح السعدني ويحيى الفخراني، أما المخرجين فنجد خيري بشارة و رأفت الميهي "الذي تميز أيضـًا بتقديمه أفلام تنتمي للسريالية والفانتازيا" و علي عبد الخالق، وقد برز هذا التيار في ثمانينات القرن الماضي بعد موجة من الأفلام الخفيفة وما عُرف بأفلام المقاولات إثر نكسة 1967. ويعد هذا التيار تطورًا للواقعية التي نشأت على يد كمال سليم وصلاح أبو سيف نهاية الثلاثينات، فالتيار الجديد كان يناقش قضايا تعبر عن المرحلة مثل الانفتاح الاقتصادي بعد حرب أكتوبر، الفساد المجتمعي والأخلاقي الذي أصاب طبقات المجتمع، انتشار ظاهرة المخدرات والإدمان… إلخ.
(2). بعض المصادر التي تم الاعتماد عليها هي فيلم تسجيلي عن حياة المخرج عاطف الطيب إنتاج قناة الجزيرة الوثائقية بعنوان: الطيب سيرة ذاتية لوطن. وأيضــًا عدد من الفيديوهات الموجودة على موقع اليوتيوب عن الفنان نور الشريف.