عندما يُذكر اسم الفنان صلاح منصور، فإن الكثيرين وخاصةً من الأجيال الجديدة لا يتذكرون له سوى شخصية "العمدة عتمان" في فيلم الزوجة الثانية، وربما كان هذا الأمر فيه ظلم كبير لهذا الفنان المبدع الذي أدى عشرات الأدوار المتميزة الآخرى، وأثبت من خلالها أنه صاحب مدرسة خاصة في التمثيل، فكان يقدم الأدوار مهما كانت مركبة ومعقدة بطبيعة وتلقائية، وإلى جانب السينما، كان صلاح منصور أحد عمالقة المسرح، حيث أثرى الحركة المسرحية بعشرات الأعمال المسرحية لكبار الكُتاب، ولم يقتصر إبداع صلاح منصور على المسرح والسينما، إذ كان من أهم رواد الإذاعة ممثلًا ومخرجًا.
وفي ذكرى ميلاد عمدة السينما وعملاق المسرح، نتذكر رحلة حياة فنان أعطى عمره للفن، فاستحق أن يخلد بين عظماء فن التمثيل.
البداية صحفي
ولد صلاح منصور في 17 مارس عام 1923 بشبين القناطر في محافظة القليوبية، وكانت لديه ميول فنية منذ الصغر، فكان بارعًا في تقليد الفنانين الذين يشاهدهم في السينما، وكثيرًا ما كان يقف أمام المرآة ليقلد يوسف وهبي، و حسين رياض و أحمد علام بصوت عال، ليأتي والده ويقول له أن مصيره الجنون.
كانت البداية الحقيقية لصلاح منصور في الفن من خلال المسرح المدرسي، الذي كان أحد مؤسسيه مع الفنان زكي طليمات، وقدم من خلاله مسرحيات عديدة، كما عمل أيضا صحفيًا بمجلة روزاليوسف، وكان عمره لا يتعدى 17 عامًا، وكان أول حوار أجراه مع الفنانة أسمهان.
لم يكتف صلاح منصور بموهبته، فعمل على صقلها بالدراسة المتخصصة، والتحق بمعهد الفنون المسرحية، وكان أحد خريجي الدفعة الأولى مع المعهد إلى جانب فريد شوقي، و شكري سرحان، و حمدي غيث و عبدالرحيم الزرقاني.
المسرح الحر
كون صلاح منصور عقب تخرجه مع زملاء الدفعة فرقة المسرح الحر، والذي كان أول مسرح خاص يقدم أعمالا جادة، وقدم العديد من الأعمال المسرحية الهادفة سواء لكبار الكتاب المصريين، أو المقتبسة عن روايات عالمية، حيث قدم لـ نجيب محفوظ "زقاق المدق"، و"بين القصرين"، كما قدم لـ نعمان عاشور "المغماطيس" و"الناس اللي تحت"، ومن الأعمال المتميزة الآخرى "شىء في صدري" لحمدي غيث، و"الزلزال" لـ جلال الشرقاوي، و"يا طالع الشجرة" لـ سعد أردش، ومن المسرح العالمي قدم "الجريمة والعقاب"، و"زيارة السيدة العجوز"، و"رومولوس العظيم"، وغيرها من الأعمال التي أثبت فيها موهبته المتفردة، حتى قال عنه أستاذه زكي طليمات أنه ضمير المسرح وصحوته، وعلى الرغم من تقديمه أعظم المسرحيات، إلا أنه لم ينس المسرح المدرسي الذي كان أحد رواده، فعمل حتى وفاته مستشارًا لوزارة التربية والتعليم للتربية المسرحية، وكان يؤمن أن حجر الزاوية في النهوض بالمسرح لا تأتي إلا من المدرسة وتعليم الصغار فن التمثيل، لهذا ظل طوال عمره يطالب بأن يكون للتربية المسرحية دور أكبر في الوزارة.
ضبوش العكر
لم تقتصر موهبة صلاح منصور على المسرح فقط، إذ كان للإذاعة نصيب كبير من إبداع هذا الفنان العملاق، فكان أحد نجومها البارزين، وقد ساعده صوته القريب من الأذن ونبراته القادرة على التلون في تقديم العديد من الأدوار المتميزة، ومن أدواره التي لا تنسى "ضبوش العكر" في مسلسل عوف الأصيل، و"محمد الخياط" في مسلسل قسم، و"الأمير زياد" في رابعة شهيدة الحب الآلهي، وقد حقق صلاح منصور في هذه الأدوار نجاحًا جماهيريًا كبيرًا، حتى أنه حصل لأكثر من مرة على جائزة أحسن ممثل إذاعي في المسابقة التي كانت تجريها إذاعة صوت العرب.
زهرة
إذا كان المسرح عشق صلاح منصور الأول، وأيضا الإذاعة التي كان أحد روادها، فإن السينما أعطته الشهرة والنجومية وحب الناس، وكانت البداية وهو لايزال طالبًا في معهد السينما، حيث شارك في فيلم زهرة مع بهيجة حافظ، وبعد التخرج عاود الظهور في بعض الأدوار الصغيرة في بعض الأفلام، منها فيلم المليونير، حيث ظهر في استعرض المجانين مع إسماعيل يس، كما أدى دور صاحب التياترو في فيلم في الهوا سوا، ودور الشرير أمام ليلى مرادفي فيلم شاطىء الغرام، وعلى الرغم من أن دوره في تلك الأفلام لم يتجاوز دقائق، إلا أنه أثبت فيها موهبته الفنية، مما رشحه بعد ذلك لأن يلعب الأدوار الثانية في العديد من الأعمال.
وقد شهدت مرحلة الستينات تقديمه لأهم أدواره السينمائية، التي أثبت فيها موهبته المتفردة وقدراته الفنية العالية، ومن أهم تلك الأدوار دوره في فيلم لن أعترف أمام فاتن حمامة و أحمد مظهر، وإخراج كمال الشيخ الذي قدم معه أيضا فيلم الشيطان الصغير أمام حسن يوسف و كمال الشناوي، وقد حصل في هذان الفيلمان على جائزة التمثيل نتيجة لتميزه في أداء أدوار الشر، كما قدم دور الأحدب في فيلم مع الذكريات للمخرج سعد عرفة بتميز شديد، حتى أن الممثل البريطاني الشهير تشارلز لوتون صفق له عندما عرض هذا الفيلم في لندن عام 1962، وقام بعد نهاية الفيلم وصافح صلاح منصور مهنئا وقال "لو أن هذا الممثل الموهوب موجود عالميًا لكنت أسلمت له الشعلة من بعدي"، ومن أدواره العظيمة الآخرى، دوره في فيلم البوسطجي للمخرج حسين كمال، حيث قام بدور والد الفتاة جميلة التي يقوم بقتلها بسبب وقوعها في الخطيئة، ومن المشاهد التي لا تنسى له في الفيلم، عندما حمل ابنته القتيلة وسار بها في أنحاء القرية، حيث أدى المشهد ببراعة وتميز، ومع حسين كمال أيضا قدم فيلم المستحيل أمام نادية لطفي وكمال الشناوي.
صلاح أبو سيف
إذا كان الفنان صلاح منصور عمل مع العديد من المخرجين الذين استطاعوا أن يبرزوا موهبته وقدراته الفنية، إلا أن المخرج الكبير صلاح أبو سيف استطاع أن يقدم صلاح منصور في أفضل صورة من خلال العديد من الأفلام، وكانت بداية التعاون معه في فيلم بداية ونهاية عام 1960، حيث قدم دور "سليمان البقال" الذي يخدع "نفيسة" الفتاة العانس التي جسدتها ببراعة سناء جميل، ونجح صلاح منصور في تجسيد هذا الدور ببراعة، ليكرر التعاون مرة ثانية من خلال فيلم الزوجة الثانية، حيث قدم صلاح منصور دور "العمدة عتمان" المزواج الذي يطمع في زوجة الفلاح البسيط، فيطلقها منه بالإجبار، حتى يتزوجها وينجب منها الولد، الذي فشلت زوجته في إنجابه، وصل صلاح منصور للقمة من خلال هذا الدور، وقدم مع سناء جميل دويتو رائع، وحتى الآن لا يمكن أن ننسى جملة سناء منصور " الليلة يا عمدة" ورده عليها " هي حبكت الليلة". استمر التعاون بين صلاح منصور وصلاح أبو سيف من خلال فيلم القضية 68، حيث قدم دور الرجل الطيب الذي يرى أن حل المشكلات يجب أن يكون بالمصالحة.
ثورة اليمن
لا يمكن أن نتحدث عن أدوار الفنان صلاح منصور في السينما دون أن نذكر دوره في فيلم ثورة اليمن مع ماجدةو عماد حمدي وحسن يوسف، وإخراج عاطف سالم، حيث تناول الفيلم كفاح شعب اليمن وثورته على نظام الحكم الإمامي، وجسد صلاح منصور دور "الإمام أحمد" الطاغية الوحشي بطريقة بارعة، ومن المواقف الطريفة التي حدثت أثناء التصوير، أن صلاح منصور كان يصور أحد المشاهد بملابس الإمام في شوارع بمدينة تعز اليمنية، مما دفع بالبسطاء نحوه يريدون قتله وهم يهتفون " اﻹ** مام عاد من جديد.. اقتلوه اقتلوه" ولم ينقذه من بين أيديهم سوى رجال الأمن المرافقين له أثناء التصوير، وقد سُئل صلاح منصور في حوار قديم عن سر قبوله هذه الشخصية الوحشية فقال " كر ***اهيتي للشخصية دفعتني إلى تجسيدها، وكان لابد أن نعرف مأساة اليمن في ظل حكم الآئمة، وإشراقة الثورة التي أطاحت بهذا النظام، فمن خلال وجودي في اليمن أثناء التحضير وتصوير الفيلم، عرفت عن قرب بشاعة الحياة التي فرضتها فترة حكم الآئمة مئات السنين"*.
استمر إبداع صلاح منصور في السبعينات من خلال أدوار عديدة متميزة، منها دور الزوج المفروض على الفتاة الجميلة الصغيرة في فيلم حكاية بنت اسمهما مرمر لـ بركات، الرأسمالي الجشع في الأقمر، مدير المخابرات في فيلم وراء الشمس لـ محمد راضي، وغيرها من الأعمال، وبالإضافة للسينما، شارك صلاح منصور في العديد من المسلسلات التليفزيونية منها الحب الأخضر، والحب الأخير، والضباب، ولقاء وأخيرًا على هامش السيرة.
حب الجمهور
نال صلاح منصور العديد من الجوائز والتكريمات منذ بداياته، ففاز بجائزة السينما عن دوره في فيلم لن أعترف، وفي عام 1964 حصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، ثم جائزة الدولة التقديرية عام 1978 في الاحتفال بعيد العلم، ولكن تبقى أهم جائزة حصل عليها هى حب الجمهور الذي عشقه بسبب موهبته المتفردة.
ابنه هشام
إذا كانت حياة الفنان صلاح منصور الفنية مليئة بالنجاحات والأدوار الفنية المتميزة، فإن حياته الخاصة كانت مختلفة، حيث عاش قصة ألم حقيقية بسبب ابنه الأصغر هشام، الذي أصيب بضمور في أعضائه، وكان يطير معه كل عام لعلاج الصمم والتخلف، وبعد عشر سنوات من رحلة المرض توفى الابن بعد إجرائه عملية جراحية في لندن، فأصيب صلاح منصور بصدمة عصبية جراء فقده لابنه، وبدأت تداهمه الأمراض، فعانى من سرطان في الرئة وتليف في الكبد، ومع ذلك، لم يعرف أحد من الفنانين أو الجمهور بحقيقة مرضه، وقدم أعمال عدة خلال تلك الفترة التي استمرت ثلاث سنوات، وحاول التغلب على مرضه وأحزانه بالتمثيل.
يحيى الفخراني
استمر صلاح منصور في تقديم أعمال فنية متنوعة سواء مسرحية أو سينمائية أو تليفزيونية، وكان يستعد لبطولة مسرحيةبكالوريوس فى حكم الشعوبأمام نور الشريف، وبالفعل أجرى بروفات لمدة شهرين، ثم شعر أن صحته لن تجعله يعطي الدور حقه من الإجادة والإتقان، كما اعتاد طوال عمره، فاعتذر عن تقديم الدور، وكانت تلك المرة الأولى التي يعتذر فيها عن أداء دور بعد الموافقة عليه وإجراء البروفات، وكانت تسبقه دموعه وهو يتكلم، ثم رشح الفنان الشاب حينها - يحيى الفخراني- لأداء دوره.
لا تبكوا
لم يستطع صلاح منصور أن يخفي الآمه طويلا، فاضطر أن يدخل المستشفى بسبب معاناته من المرض، وكانت معه زوجته وابنه الأكبر مجدي، وكانت أخر كلماته التي قالها لهم " لا تبكوا، فقد عشت عمري وأنا أكره أن ارى الدمع في عيونكم، ولن أحبها بعد موتي"، وفي يوم 19 يناير عام 1979 رحل صلاح منصور عن عمر يناهز 56 عامًا، ولأنه لم يترك لأسرته الصغيرة سوى المجد الفني، فقد تقدمت أرملة الفنان الراحل بطلب للرئيس السادات لصرف معاش استثنائي، لمعاونتها على مواجهة أعباء الحياة، ووافق السادات على طلبها تقديرًا لما قدمه صلاح منصور للفن المصري.